تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 322 322 : تفسير الصفحة رقم 322 من القرآن الكريم سورة الانبياء وهي مكية قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا غندر, حدثنا شعبة عن أبي اسحاق سمعت عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال بنو إسرائيل والكهف, ومريم, وطه, والأنبياء, هن من العتاق الأول وهن من تلادي. بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رّبّهِمْ مّحْدَثٍ إِلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَـَذَآ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السّمَآءِ وَالأرْضِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوَاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأوّلُونَ * مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ هذا تنبيه من الله عز وجل على اقتراب الساعة ودنوها, وأن الناس في غفلة عنها, أي لا يعملون لها ولا يستعدون من أجلها. وقال النسائي: حدثنا أحمد بن نصر, حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي, حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم {في غفلة معرضون} قال: «في الدنيا». وقال تعالى: {اتى أمر الله فلا تستعجلوه} وقال {اقتربت الساعة وانشق القمر, وإن يروا آية يعرضو} الاَية, وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن هانىء أبي نواس الشاعر أنه قال: أشعر الناس الشيخ الطاهر أبو العتاهية حيث يقول: الناس في غفلاتهمورحا المنية تطحن فقيل له: من أين أخذ هذا؟ قال من قول الله تعالى: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} وروى في ترجمة عامر بن ربيعة من طريق موسى بن عبيد الاَمدي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب, فأكرم عامر مثواه, وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه الرجل فقال: إني استقطعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وادياً في العرب, وقد أردت أن اقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك, فقال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك, نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون}. ثم أخبر تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله والخطاب مع قريش ومن شابههم من الكفار, فقال {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} أي جديد إنزاله {إلا استمعوه وهم يلعبون} كما قال ابن عباس: ما لكم تسألون أهل الكتاب عمابأيديهم وقد حرفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه, وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرؤونه محضاً لم يشب, رواه البخاري بنحوه. وقوله: {وأسروا النجوى الذين ظلمو} أي قائلين فيما بينهم خفية {هل هذا إلا بشر مثلكم} يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبعدون كونه نبياً لأنه بشر مثلهم, فكيف اختص بالوحي دونهم, ولهذا قال: {أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} أي أفتتبعونه فتكونون كمن يأتي السحر وهو يعلم أنه سحر, فقال تعالى مجيباً لهم عما افتروه واختلقوه من الكذب {قال ربي يعلم القول في السماء والأرض} أي الذي يعلم ذلك لا يخفى عليه خافية, وهو الذي أنزل هذا القرآن المشتمل على خبر الأولين والاَخرين, الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله إلا الذي يعلم السر في السموات والأرض. وقوله: {وهو السميع العليم} أي السميع لأقوالكم والعليم بأحوالكم, وفي هذا تهديد لهم ووعيد. وقوله: {بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه} هذا إخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم واختلافهم فيما يصفون به القرآن, وحيرتهم فيه وضلالهم عنه, فتارة يجعلونه سحراً, وتارة يجعلونه شعراً, وتارة يجعلونه أضغاث أحلام, وتارة يجعلونه مفترى, كما قال {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيل} وقوله {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} يعنون كناقة صالح وآيات موسى وعيسى وقد قال الله: {وما منعنا أن نرسل بالاَيات إلا أن كذب بها الأولون} الاَية, ولهذا قال تعالى: {ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون} أي ما آتينا قرية من القرى التي بعث فيهم الرسل آية على يدي نبيها فآمنوا بها بل كذبوا, فأهلكناهم بذلك أفهؤلاء يؤمنون بالاَيات لو رأوها دون أولئك؟ كلا, بل {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} هذا كله وقد شاهدوا من الاَيات الباهرات والحجج القاطعات والدلائل البينات على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أظهر وأجلى وأبهر وأقطع وأقهر مما شوهد مع غيره من الأنبياء, صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. قال ابن أبي حاتم رحمه الله: ذكر عن زيد بن الحباب, حدثنا ابن لهيعة: حدثنا الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي, حدثني من شهد عبادة بن الصامت يقول: كنا في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرىء بعضُنا بعضاً القرآن, فجاء عبد الله بن أبي ابن سلول ومعه نمرقة وزربية, فوضع واتكأ, وكان صبيحاً فصيحاً جدلاً, فقال: يا أبا بكر, قل محمد يأتينا بآية كما جاء الأولون, جاء موسى بالألواح, وجاء دواد بالزبور, وجاء صالح بالناقة, وجاء عيسى بالإنجيل وبالمائدة, فبكى أبو بكر رضي الله عنه, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: قوموا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه لا يقام لي إنما يقام لله عز وجل» فقلنا: يا رسول الله إنا لقينا من هذا المنافق, فقال: «إن جبريل قال لي اخرج فأخبر بنعم الله التي أنعم بها عليك, وفضيلته التي فضلت بها, فبشرني أني بعثت إلى الأحمر والأسود, وأمرني أن أنذر الجن, وآتاني كتابه وأنا أمي, وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر, وذكر اسمي في الأذان, وأمدني بالملائكة, وآتاني النصر, وجعل الرعب أمامي, وآتاني الكوثر, وجعل حوضي من أكثر الحياض يوم القيامة وروداً, ووعدني المقام المحمود والناس مهطعون مقنعون رؤوسهم, وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس, وأدخل في شفاعتي سبعين ألفاً من أمتي الجنة بغير حساب, وآتاني السلطان والملك, وجعلني في أعلى غرفة في الجنة في جنات النعيم, فليس فوقي أحد إلا الملائكة الذين يحملون العرش, وأحل لي ولأمتي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا» وهذا الحديث غريب جداً. ** وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوَاْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاّ يَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ * ثُمّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ يقول تعالى راداً على من أنكر بعثة الرسل من البشر: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم} أي جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالاً من البشر لم يكن فيهم أحد من الملائكة, كما قال في الاَية الأخرى {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى} وقال تعالى: {قل ما كنت بدعاً من الرسل} وقال تعالى حكاية عمن تقدم من الأمم, لأنهم أنكروا ذلك فقالوا {أبشر يهدونن} ولهذا قال تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتملا تعملون} أي اسألواأهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف: هل كان الرسل الذين أتوهم بشراً أو ملائكة ؟ وإنما كانوا بشراً, وذلك من تمام نعمة الله على خلقه إذ بعث فيهم رسلاً منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم والأخذ عنهم. وقوله: {وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام} أي بل قد كانوا أجساداً يأكلون الطعام كما قال تعالى: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} أي قد كانوا بشراً من البشر يأكلون ويشربون مثل الناس, ويدخلون الأسواق للتكسب والتجارة, وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئاً, كما توهمه المشركون في قولهم {ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منه} الاَية. وقوله: {وما كانوا خالدين} أي في الدنيا, بل كانوا يعيشون ثم يموتون {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عز وجل, تنزل عليهم الملائكة عن الله بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه, وقوله: {ثم صدقناهم الوعد} أي الذي وعدهم ربهم ليهلكن الظالمين صدقهم الله وعده وفعل ذلك, ولهذا قال {فأنجيناهم ومن نشاء} أي أتباعهم من المؤمنين {وأهلكنا المسرفين} أي المكذبين بما جاءت به الرسل.